صحافة

الغرب قلق على بولندا أكثر من أوكرانيا

يتابع العالم تطورات الأزمة الأوكرانية المفتوحة على كل الاحتمالات، بما في ذلك الغزو الروسي المحتمل. على ضوء مضمون أشغال مجلس الأمن القومي الروسي الاثنين من الأسبوع الجاري، ومع ذلك، فإن أكثر ما يقلق منظمة شمال الأطلسي هو الافتراض بأن الحرب ستمتد إلى رومانيا وبلغاريا، من دون استثناء بولندا، إذا خرج الوضع عن السيطرة العسكرية، ذلك أن موسكو تطالب بانسحاب القوات والأسلحة الأجنبية من هذه الدول، وكذلك سحب نظام الدفاع الصاروخي للعودة إلى ما كان عليه الوضع قبل عام 2004.

وهكذا، يجري التركيز على التطورات العسكرية في أوكرانيا، بعد بدء تبادل النار بين الجيش الأوكراني والميليشيات المسلحة في دونباس، ووجود معطيات مقلقة على رأسها انسحاب الساكنة الموالية لروسيا نحو أراضي هذا البلد، ثم اعتراف البرلمان الروسي خلال الأيام الماضية بالجمهوريتين المعلنتين في شرق أوكرانيا إقليمي دونتسك ولوهانسك. وفي خطوة مفاجئة، يقدم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على نقل أشغال مجلس الأمن القومي الروسي، حول معالجة الأزمة وضرورة الاعتراف بالجمهوريتين. وهذه مقدمة للتدخل في شرق أوكرانيا للدفاع عن الساكنة الموالية لروسيا.

وإذا كانت كل المؤشرات، ومنها تأكيدات باريس ولندن وواشنطن، تقود إلى حتمية هجوم روسي على أوكرانيا، إلا في حالة تلبية الغرب لكل المطالب الأمنية الروسية، غير أن الواجهة المقلقة هو ما قد يجري في رومانيا وبلغاريا، من دون استبعاد بولندا. وترسل الدول الغربية فقط بعض الأسلحة الخفيفة، خاصة القذائف ضد الدبابات والمدرعات إلى الجيش الأوكراني، في المقابل ترسل الولايات المتحدة والدول الأوروبية الغربية مثل، فرنسا وإسبانيا وألمانيا وبريطانيا تعزيزات عسكرية مثل المقاتلات والجنود إلى كل من الدول الثلاث. وأعلن البنتاغون إرسال جنود أمريكيين إلى بولندا، ويرتقب إرسال عشرة آلاف في المجموع، كما أرسلت إسبانيا وفرنسا وبريطانيا قوات عسكرية ومقاتلات إلى رومانيا وبلغاريا خلال الثلاثة أسابيع الماضية. وكانت الصحافة البولندية ومنها جريدة «بوليتيكا» قد اعتبرت مؤخرا أن مناورات الجيش الروسي والبيلاروسي بالقرب من الحدود البولندية مقلقة وتضع البلاد فوق فوهة بركان. وتضاعف القلق منذ يومين بعدما أعلنت بيلاروسيا أن استقبال بولونيا قوات أجنبية يهدد أمن هذا الحليف الروسي.

كل هذا يفسر القلق الذي يسيطر على منظمة شمال الحلف الأطلسي بعدما قررت موسكو تطبيق سياسة صارمة بشأن فرض واقع سياسي وعسكري جديد في أوروبا الشرقية. ويوجد مؤشران خطيران وهما:

يدرك الغرب أن الملف الأوكراني هو مقدمة لتخويف دول أوروبا الشرقية، بسبب احتضانها قواعد عسكرية غربية وأنظمة صاروخية غربية متطورة

أولا، طالب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من واشنطن في رسالة المطالب الأخيرة ضرورة سحب القوات والعتاد الأجنبي من بلغاريا ورومانيا إلى الوضع الذي كان عليه سنة 1997 أي قبل انضمامهما إلى الحلف الأطلسي، ويعتبر هذا المطلب غير قابل للتفاوض، وسيكون التفاوض مقتصرا على جدول زمني لتطبيقه، خاصة سحب الذراع الصاروخي من روماني، بل ألمح إلى حرب استباقية أمام نوايا أوكرانيا استعادة شبه جزيرة القرم واستعادة السلاح النووي.

ثانيا، خلال الخمس سنوات الأخيرة ما بين 2017-2022، بدأ الجيش الروسي رفقة بيلاروسيا، تنفيذ مناورات عسكرية متتالية هي الأضخم بعد انهيار الاتحاد السوفييتي ترتكز على سيناريوهات غزو أوروبا الشرقية للقضاء على مصادر الخطر. وتحمل هذه المناورات اسم «زاباد» وتعني في الروسية «الغرب» وتم تجريب أحدث الأسلحة الروسية، وأحدث الخطط العسكرية. وكان هذا من أسباب رفع الحلف الأطلسي من مناورات دفاعية، ثم قراره بتعديلات جوهرية تتمثل في ما يطلق عليه «شينغن عسكري» سنة 2017 تسمح بنقل قوات عسكرية أوروبية في أقسى ظرف زمني، ولم يتم التقدم كثيرا في هذا التعديل.

ويدرك الغرب أن الملف الأوكراني هو مقدمة لتخويف دول أوروبا الشرقية، بسبب احتضانها قواعد عسكرية غربية وأنظمة صاروخية غربية متطورة. واعتمد البنتاغون سنة 2016 نظام الذراع الصاروخي في ثلاث دول وهي، رومانيا وبولندا بقاعدتين بريتين وقاعدة بحرية روتا جنوب إسبانيا عند مدخل مضيق جبل طارق غربا، وهي منظومة دفاع صاروخية لاعتراض صواريخ باليستية موجهة ضد الغرب. وبرر الحلف الأطلسي وقتها اللجوء إلى نصب هذا السلاح باعتراض صواريخ كوريا الشمالية وإيران، غير أن موسكو تسخر من هذا التبرير وتعتبرها موجهة ضدها. وتعترض موسكو على احتضان رومانيا وبولندا هذه الصواريخ، ولكنها لا تعترض على إسبانيا لأنها دولة بعيدة جغرافيا وليست قريبة من الحدود الروسية.

وكان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قد صرح يوم 17 مايو/أيار 2016 «على رومانيا وبولندا التخلي عن الذراع الصاروخي حتى لا تكونا هدفا لنا». وطيلة السنوات الأخيرة، تصر وتكرر موسكو على ضرورة سحب هذه المنظومة الصاروخية، لأنها تمس بالأمن القومي الروسي، وجعلها بوتين عنصرا رئيسيا في المطالب، التي ينتظر الرد عليها من واشنطن والحلف الأطلسي. وتحدث عن هذا في تدخله في أشغال مجلس الأمن القومي الاثنين من الأسبوع الجاري.

ورغم توفر روسيا على صواريخ متطورة لا يمكن للذراع الصاروخي اعتراضها، إلا أنها تتخوف من توصل الغرب مستقبلا إلى نظام متطور قادر على اعتراض الصواريخ الروسية. وخلال هذه الأزمة تضع موسكو سحب القوات الأجنبية والذراع الصاروخي شرطا رئيسيا لتهدئة الأوضاع. ويؤكد الوزير الأول البلغاري كيريل بيتكوف أن «بلغاريا دولة ذات سيادة وتحولت منذ سنوات طويلة الى عضو في الحلف الأطلسي» وبدورها تؤكد رومانيا على حقها في استضافة قوات أجنبية واقترحت على موسكو زيارة القواعد العسكرية للحلف الأطلسي ومنها الذرع الصاروخي لتتأكد أنها لا تستهدف روسيا. ويشدد الحلف الأطلسي على عدم الانسحاب من أوروبا الشرقية، بينما تشدد روسيا على مطالبها، وآخرها ما أصر عليه بوتين في خطابه أمام مجلس الأمن القومي الاثنين الماضي، بأنه لن يسمح نهائيا للغرب بناء أمنه القومي على حساب أمن روسيا.

التشدد الروسي في حالة أوكرانيا هو ترجمة لمطالبها الشاملة لضمان أمنها القومي، ترغب في فرض واقع جيوسياسي جديد، تكون فيه دول أوروبا الشرقية على شاكلة حياد النمسا والسويد وفنلندا، فهي دول غربية عضو في الاتحاد الأوروبي، ولكنها فضلت عدم الانخراط في الحلف الأطلسي للحفاظ على التوازن مع روسيا.

حسين مجدوبي /كاتب مغربي «القدس العربي»

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

يرجى إيقاف مانع الإعلانات من المتصفح. موقع بولندا بالعربي يعتمد على ريع الإعلانات للإستمرار في تقديم خدماته شاكرين لكم تفهمكم