بولندا سياسة

النزعة القومية في شرق أوروبا ترفض التناغم مع قيم أوروبا الغربية

 

ما الذي يسير باعوجاج في الاتحاد الأوروبي؟ بولندا والمجر اللتان انضمتا قبل 13 عامًا فقط إلى الاتحاد الأوروبي تتشبثان بنزعتهما القومية، وهذه الظاهرة مستفحلة منذ مدة في أوروبا الشرقية.

ليس هناك حاجة إلى دليل إضافي لتأكيد الثقة بالنفس لأعضاء الاتحاد الأوروبي من أوروبا الشرقية، لكن فيكتور أوربان الرجل القوي في المجر ورئيس الوزراء انتهز ظهوره كضيف لدى الحزب الاجتماعي المسيحي الألماني ليقول كلمات واضحة: اللاجئون المسلمون يُعتبرون بالنسبة إلى مواطنيه غزاة مسلمين، “لا نرغب فيهم”.

وقال أوربان لصحيفة “بيلد” الشعبية إن المجر لا تسمح بأن يُفرض عليها شيء، وهو يرفض التدخل في شئون الآخرين، إلا أن بلده يستحق احتراما أكثر، في تصريح ضد انتقاد زعيم الحزب الاشتراكي الديمقراطي مارتن شولتس، ولا مجال للشك: فالاتحاد الأوروبي يزيغ سياسيا عن المسار القويم.

قيم الشرق ضد قيم الغرب

مع العلم أن الاتحاد الأوروبي كان بمثابة عنوان تحن إليه دول المعسكر الشرقي السابق، ولم تمر على تلك الحقبة سوى 25 عامًا، وفي الأثناء تواجه الكتلة الأوروبية مشكلات جمة مع أعضائها الفتيين، والعكس أيضًا صحيح، فبولندا والمجر تنظران إلى مجموعة قيم بروكسيل فقط كآلة أوراق نقدية، وترفضان مركزية بروكسيل، وفي تنوع الثقافات بأوروبا الغربية تريان تهديدا.

 

وفي المقابل يتم في وارسو وبودابيست تحديد قيم قديمة جديدة: الوطن، والمعتقد المسيحي، والعائلة، وهذه المثل السياسية الاجتماعية لها مفعولها في تشيكيا وسلوفاكيا، وتشكلت حركة معاكسة للمجتمعات المنفتحة لأوروبا الغربية.

ووراء ذلك تكمن فكرة منح الوطن أولوية في وجود بلا حدود وعولمة، وبهذا يحدد فيكتور أوربان وحزبه من جديد مقاييس القيم للأمة المجرية.

إنها محاولة تبسيط عالم معقد يتم الشعور به كتهديد جماعي، والنهج نفسه يتبعه ياروسلاف كاتشينسكي، رئيس وزراء بولندا، فالاثنان يحكمان بصفة مطلقة ولا يخفيان تحفظاتهما تجاه نماذج المجتمع الغربي، فالفكرة الأوروبية يتم إعادة تقييمها حاليًا في الشرق.

بعد الاشتراكية تأتي الليبرالية الجديدة

 

 

والنتيجة هي حصول انزلاق واضح إلى اليمين في القسم الشرقي للاتحاد الأوروبي، وله علاقة فقط ملزمة مع الحاجة الاقتصادية، فالافتراض أن الاقتصاد المتأزم ونسبة البطالة العالية تشحن التوجهات القومية ينفيه مثال تشيكيا، حيث يُسجل نمو اقتصادي بنحو 5% ونسبة بطالة متدنية بمستوى 3%، وهي الأدنى في الاتحاد الأوروبي، وهذا لم يمنع الانزلاق إلى اليمين تحت قيادة رئيس الوزراء أندري بابيس.

 

ويُسجل تطور مشابه في بولندا. ففي 1990 لم يجن البولندي العادي سوى 12 من مستوى ما اقتناه الألماني العادي، وفي 2016 وصلت هذه النسبة إلى الربع، ورغم ذلك فإن القومية في ازدياد، فصحيفة “نيويورك تايمز” متأكدة من أن “الشعبوية تسيطر في أوروبا الشرقية”.

أما لماذا الوضع على هذا النحو، فذلك له علاقة بأن الدول الشرقية المتحولة بعد 1990 لم تمر بفترة اجتماعية ديمقراطية، كما يعلل بيوتر بوراس، خبير مرموق في شئون السياسة في بولندا، فالليبرالية الجديدة نالت من المجتمع الذي كانت تسيطر عليه الشيوعية. ولم تكن هناك دولة اجتماعية والنقابات كانت ضعيفة، وحلت الرأسمالية دون فرملتها، وهذا خلف جروحا مثل الشعور بعقدة نقص. ففي بولندا، كما يقول الكاتب “زيموفيت شتشيريك” ينظر المرء إلى نفسه مثل ما ينظر الغرب إلى بولندا: “فقيرة بعض الشيء ومتأخرة وقليلة الفاعلية”.

بولندا: الارتباط بالتوحد

في الأسبوع الماضي قام رئيس الوزراء البولندي الجديد بأول زيارة له إلى الخارج ـ ليس إلى بروكسيل، بل إلى بودابيست، وهذه إشارة سياسية واضحة، مفادها أن المجر أهم بالنسبة إلى بولندا من الاتحاد الأوروبي، وبعدها زار نظيره في سلوفاكيا، وقلما توجد أصوات تطالب بإدارة الظهر لبروكسيل، لكن بالنظر إلى الوضع الداخلي الأوروبي، فإن وارسو تتصرف مثل شخص غريب عن العائلة الأوروبية، والكثير من الناس يعتقدون، كما تقول الكاتبة البولندية إنغا إيفازيوف “أن الاتحاد الأوروبي يأخذ منا الكرامة”، ومن الغرب لا يأتي سوى “التقنين والمشكلات والنسبوية الأخلاقية”، وتقول إيفازيوف إن مواضيع الإجماع الاجتماعي للغرب مثل المساواة والعلمانية وحقوق الأقليات لم تصل أبدا إلى بولندا، وعوض ذلك ينشغل البولنديون في أوقات الأحزاب الشعبوية مع أنفسهم، وهذا الالتزام بمرض التوحد يظهر بشكل ملحوظ في الذكرى السنوية لعام 2018 عندما تحيي بولندا ذكرى إعادة السيادة الحكومية قبل 100 عام، فالأمة هي مقياس كل شيء، ويُرفض تلقين الدروس من بروكسيل أو برلين، والعدالة، حسب الحزب الحاكم، خضعت “لإرادة الشعب”، ووراء الظاهرة الفتية لليمين السياسي الاجتماعي يوجد الشعور البولندي بأن المواطن كان دوما ضحية، والجواب على ذلك هو الوطنية والقومية.

المجر: هوية قومية غير ثابتة

ووصف هذه الأوضاع يشبه ما هو سائد في المجر، فرئيس الوزراء أوربان يعين في العدالة والإدارة بصفة منهجية أشخاصًا تابعين له، والتصور بأنه بعد التحول السياسي في التسعينيات ستتبع المجر المثل الغربية لدستور ديمقراطي والاقتصاد الحر وتنوع الثقافات كان خاطئًا، كما يقول رئيس الجامعة الأوروبية في “بودابيست ميشاييل إيجناتيف”.

وهذه الجامعة التي أسهم في تأسيسها ويمولها المستثمر المجري الأمريكي جورج سوروس لها سمعة مرموقة عالميا، وهي شوكة في عين أوربان، وذكرت مجلة “شبيغل” الألمانية في ديسمبر الماضي أن في تلك الجامعة تدرس النخبة الدولية التي يشك فيها المجريون، “وسوروس هو شخصية رمزية للرأسمالية التي يقول عنها اليمينيون الشعبويون إنها تهدد التقاليد”.

وحتى هنا في النضال الثقافي تتجسد مظاهر الهوية الجماعية، ففي 1920 ظهرت المجر كدولة منبثقة عن الملكية، وهي أمة فتية لها حاجة باللحاق بالركب فيما يخص الهوية، وتشبت أوربان “بالقيم المجرية” يمنح المجريين الثقة والأمان، إنه عالم خال من الأجانب وموظفي بروكسيل، كما ذكرت مجلة “شبيغل”.

وما يمكن ملاحظته في الهامش الشرقي للاتحاد الأوروبي، لم يخطر على بال الأدمغة الأوروبية الذكية قبل 25 عاما، فتبني المستويات الديمقراطية واقتصاد السوق الحرة كانت تُعتبر كأشياء مفروضة من فوق، وذلك في غضون سنوات قليلة، وهذا ما عارضه عالم الاجتماع الألماني رالف دارندورف الذي أكد أن بناء مجتمع ديمقراطي يحتاج إلى 60 عامًا، والدول النموذج بالتحديد بين الأعضاء الجدد للاتحاد الأوروبي، بولندا والمجر تؤكدان أن الطريق نحو توافق أوروبا ما زال طويلا.

 

فولكر فاغنير/ م.أ.م – DW

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

يرجى إيقاف مانع الإعلانات من المتصفح. موقع بولندا بالعربي يعتمد على ريع الإعلانات للإستمرار في تقديم خدماته شاكرين لكم تفهمكم