بولندا سياسة
عصر القوميات المتطرفة يقلق الاتحاد الأوروبي: بولندا نموذجاً
“نريد الرب”. تحت هذه اليافطة خرج آلاف البولنديين في ذكرى الاستقلال، في 11 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، الذي أعاد بولندا بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى (1914 ـ 1918) إلى الخارطة الجيوسياسية بعد غياب استمر 123 عاماً. كان يمكن لتظاهرات وارسو أن تكون “عادية”، إلا أن التظاهرات الأخيرة تعدّت مسألة “العودة” إلى الماضي المتعلق بالحدود البولندية، إلى حدّ مهاجمة اللاجئين، والمسلمين خصوصاً، كما برز في تحركات اليمين المتشدد، الذين صرخوا “نعم لأوروبا بيضاء”. وبوجود نحو 60 ألف متظاهر في وارسو، رافعين أعلام بولندا الحمراء والبيضاء وشعارات فاشية معروفة في أوساط اليمين في أوروبا، بدت بولندا أكثر استعداداً لتزخيم موجات كره اللاجئين.
كان الجميع تقريباً مصدوماً مما تمّ نقله على الهواء، من دعوات لـ”رؤية أوروبا بيضاء يسودها مجتمع الأخوّة المسيحية”، بل ما أثار حفيظة سياسيين في الغرب ووضعهم في معضلة هي “الصراحة البولندية”، في ظلّ حقيقة أن وارسو هي عضو في الاتحاد الأوروبي، وتجلّت الصراحة بالتصاريح التي جاء فيها أنه “يجب القضاء على تنفُّذُ ووجود اليهود في السلطة”. وفي ذات الوقت الذي تعالت فيه شعارات العنصرية ومعاداة كل من هو ليس أبيض، والتأكيد على الأخوّة الأوروبية بشكلها المتطرف، وإبداء كراهية ومعارضة لليبرالية المهددة للفكرة المسيحية في أوروبا، كان الرئيس البولندي، أندري دودا، جنباً إلى جنب مع رئيس الاتحاد الأوروبي، رئيس وزراء بولندا سابقاً، دونالد توسك، يشاركان بذكرى الاستقلال تحت عنوان “نريد الرب”.
المعضلة الثانية في التحركات القومية المتطرفة، تجاوزت مسألة وصفها من قبل وسائل الإعلام الرسمية، بـ”مسيرة الوطنيين الكبرى”، إلى ما قاله وزير الداخلية من الحزب القومي الحاكم، ماريوش بواشتشاك، المشارك فيها للقناة الرسمية “لقد كان مشهداً رائعاً”.
جرى كل هذا في ظل إقرار سلسلة من القوانين وإجراءات لحزب “القانون والنظام”، الحاصل على 38 في المائة في انتخابات 2015، متعلقة باستقلال القضاء وحرية الصحافة والسعي لإبعاد قوى ليبرالية اجتماعية من الوصول يوماً إلى الحكم واتهامهم بأنهم “بقايا شيوعيين”، رغم أنهم في الواقع شخصيات وقوى واجهت الحكم الشيوعي في السابق. في المقابل، إن علاقة وارسو مع بروكسل (العاصمة البلجيكية، مقرّ الاتحاد الأوروبي)، وبرلمان أوروبا في ستراسبورغ (فرنسا)، متشنجة بعض الشيء، بما يتعلق بسياسات بولندا الداخلية.
الأخيرة متهمة، أو تحت الشبهة منذ سنوات، بأنها “تتراجع عن معايير كوبنهاغن الدنماركية لقبول العضوية”. معايير حددتها قمة الـ”15 دولة”، قبل توسّع الاتحاد وشمول معظم دول الكتلة الشرقية سابقاً، في العاصمة الدنماركية في عام 1993. تضمنت تلك المعايير، من بين قضايا عدة، الالتزام بالحكم الديمقراطي وحماية حقوق الإنسان والأقليات، بمراجعة وإلغاء القوانين المتعارضة مع توجهات الدول الديمقراطية وأسسها. في العامين الماضيين تفجّرت العلاقة الملتبسة داخل بولندا، في ظل حكم سيطرة برلمانية لحزب “القانون والنظام”، مع تزايد شعبيته والحركات القومية الأخرى، التي أدّت لانقسام بولندا بين معسكرين.
ومثل بقية مجتمعات شرق أوروبا فإن الانقسام السياسي هو بين معسكرين. معسكر عامل في سياق هيمنة الفكر القومي الساعي بخطابه إلى بث روح الوطنية الصرفة، بشعارات عن التقاليد والتراث والتحكم بحدود الوطن، بناء على فكرة إشكالية منتشرة بين اليمين المتطرف عن صلات الدم والتربة. ومعسكر “الأوروبية” المعتبر بأن على تلك المجتمعات الاتجاه نحو توثيق صلاتها الأوروبية بتبني الحداثة والديمقراطية وسيادة القانون وفصل السلطات، بمؤسسات واضحة وبناء على فكرة “فصل السلطات” في التعريف الأنغلوسكسوني. كما أنّ بين المعسكرين مدى زمنياً طويلاً، منذ شيوع فكر المعسكر الأول في القرن التاسع عشر، وتأسُّس المعسكر الثاني في الفترة التي تلت الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945).
أدى انهيار الحكم الشيوعي، في الكتلة الشرقية، واختلال ميزان القوى بين الطرفين، إلى التحوّل نحو اتجاهات ديمقراطية، على الرغم من أن دول أوروبا الشرقية المعاصرة، لم تكن قد اقتربت من محددات يورغن هابرماس عن “الدستورية الوطنية”، أي المحددات التي تسمح لكل دولة بتجاوز انقساماتها الماضية والخروج من كارثية تجاربها إلى عقد اجتماعي وطني منصوص عليه دستورياً. بالتالي فإننا لم نكن أمام تطور في سياق طبيعي، لتبنّي المسائل الديمقراطية والحريات. فبعد عقود من حكم شمولي، تلا احتلالين ألماني و سوفييتي، لجأ البعض لتعزيز نظرته إلى صلة الدم والتربة، فيما عارضه آخرون بقوة. وبعد عقود من الهيمنة والدوران في فلك سوفييتي، وجد البولنديون أنفسهم أمام “الحرية” في الحديث الشامل عن خيارات الديمقراطية، من دون النظر بتمعن لهشاشة مؤسسات هذه الدولة ومجتمعها.
مع العلم أن الغرب، تحديداً في الاتحاد الأوروبي، قد باشر في وضع معاييره الخاصة لاستقبال دول شرقية في ناديه “الديمقراطي والحر”. كانت حماسة الاندفاع نحو بنى ديمقراطية واضحة في المجر ولاحقاً في بولندا، وليس بغريب اليوم أن تشكل الدولتان صداعاً أوروبياً وجدلاً أخذ مساراً حاداً في الأوصاف خلال العامين الماضيين. وسبق لكتّابٍ ومفكرين غربيين أن أطلقوا على بولندا لقب “رجل أوروبا المريض”، وفي أخرى “السير نحو الحكم الفاشي” إلى جانب سيل من التصادم مع المجر، لغةً وتهديداً بالعقوبات.
ومنذ أن انضمت بولندا إلى الاتحاد الأوروبي في عام 2004، بدأت رادارات هذا الاتحاد، الرسمية في بروكسل والكتل البرلمانية في ستراسبورغ، وغير الرسمية بمنظماته ومؤسساته الحقوقية والفكرية، بمراقبة الوضع في وارسو، التي وعلى الرغم من انضمامها إلى “برنامج الاستذكار السياسي”، المركز على “الهولوكوست” لمنع العنصرية وكراهية الأجانب واستحضار قصص فظائع فترة الحرب العالمية الثانية، إلا أن بولندا لم تخرج من السلبية التي طغت على تاريخها.
مشكلة التعامل الرسمي في الاتحاد الأوروبي، على مدار السنوات الماضية، أظهرت أنه في بولندا والمجر حركة أو مجموعة متشددة ومتطرفة، كما في ألمانيا أو إيطاليا أو غيرها من الدول. في بولندا بدت الأمور آخذة في التصاعد، وتُرجمت بصورة رسمية بالمعنى القومي المتشدد، مع وصول حزب “النظام والقانون” إلى الحكم، بخطاب دعائي قومي مقلق داخلياً، خصوصاً لمعسكر التوجه الأوروبي، الأنغلوسكسوني، وللمحيط الغربي. الأخير، وفي مجابهة السير الروسي نحو القرم، والتهديد المباشر لمصالح أوروبا، على الأقل وفقاً للغربيين، وقع في ورطة حاجته لدول شرقية وبنفس الوقت خوفه من انهيار قيم وجوده بتبني أعضاء فيه لفكر قومي متعصّب غير متفق مع القراءة لبنى المجتمع الديمقراطي المحافظ على الحريات الفردية، وحرية الصحافة وفصل السلطات، وعلى حقوق الإنسان والأقليات، الإثنية والدينية.
اليمين القومي في بولندا، تحديداً في ظل حكومة قومية عائدة لحزب كاثوليكي، يستند عند بعض منظريه إلى فكر رابطة الدم ونقاء العرق الأبيض، ذهب منذ عام 2015 على الأقل نحو “مراجعة تاريخ بولندا”. المراجعة شملت ما اعتبره الأوربيون القلقون من التحولات: “فرض النسيان على تاريخ القومية التي قادت بولندا نحو حكم استبدادي بعد الاستقلال في 1918”. بل أن الأهم بالنسبة لمعايير الاتحاد الأوروبي، المفروضة بالمناسبة حتى على الدول المتقدمة سواء في اسكندنافيا أو ألمانيا وغيرها، حول برنامج التذكار السياسي وبالتحديد عن المحرقة وضرورة وضعها في مركز رفض الفكر القومي وما ينتجه، أن وارسو تراجع شيئاً فشيئاً قضية “موت 3 ملايين يهودي بولندي بين 1939 و1945، ومساهمة البولنديين بتسليمهم للاحتلال النازي”. رأى كثرٌ بأن المصارحة، وتبني قوميين لتكذيب الحدث، صبّ الزيت على نار القومية واستعاد شرعنة معاداة السامية.
ما سارت عليه حكومة اليمين في وارسو، أثار الكثير من الجدل في المحيط، إذا ما عرفنا بأن حزب “القانون والنظام” ماضٍ في مسيرته، التي رآها الأوروبيون “خطراً على قيم وجود المؤسسات الديمقراطية”. فتحت مسمى “الإصلاح والمراجعة” جرى نزع السلطة القضائية استقلالها وإلحاقها بالسلطة التنفيذية، دون اعتبار لمبدأ فصل السلطات. نفس الأمر انطبق على الإعلام مع اعتبار الأوروبيين، منظماتٍ ومؤسساتٍ رسمية، أنها “قوانين وتعديلات ستنزع عن الإعلام وظيفته ودوره المراقب والنقدي”. أمر اتضحت ملامحه بالنسبة للأوروبيين في المجر مع تعديلات رئيس وزرائها فيكتور أوربان، المفضّلة عند اليمين في وارسو.
بقاء الديمقراطية شكلياً، بل “ديكوراً” في أوروبا الشرقية، يعني بأن بولندا ماضية نحو “ماض سلطوي”، يشرعن كراهية الأجانب ببذور قومية متشددة. وهو مزعج للجيران كالألمان، ودول الشمال أيضاً، خصوصاً أن نتائج بعض استطلاعات الرأي والانتخابات أظهرت تقدماً للنازيين الجدد بربطات عنق، ويقدمون أنفسهم كـ”أوروبيين عصريين” بل أحياناً “منفتحين اقتصادياً”. هؤلاء باتوا يؤثرون في مجتمعاتهم، ولو لم يكونوا في موقع المتحكم بمفاصل الحكم في بعض البلدان، وتقدُّمُ اليمين الألماني في الانتخابات الأخيرة نموذجٌ.
إلى جانب ذلك، فإن المشروع الأوروبي الأساسي المعمول به منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، ارتكز على مسألة منع “العودة إلى عصر السلطة المطلقة”، بشعار “لن يتكرر أبداً (بالإشارة إلى العصر النازي والفاشي)”، ومشاريع “الكراهية القومية”، فثمة ما أقلق بروكسل في المسألتين البولندية والمجرية.
ففي السياق البولندي أظهرت تحركات السنتين الأخيرتين تقدم الرفض الشعبي والسياسي لسلطة بروكسل؛ مضافةً إليه المخاوفُ من تفككه بعد “البريكست”، بتمرير القوانين والتشريعات فوق الوطنية، ما اعتبروها “سلباً للسيادة، وتفرض عليهم العودة إلى الشيوعية”.
والواقع أن تظاهرات ذكرى الاستقلال، المثيرة للجدل، حملت بعض عناوين غير مطمئنة لسياسة الاتحاد الأوروبي بهتافات: “الاتحاد الأوروبي يذكرنا أكثر فأكثر بالشيوعية. الشيوعية عملت بنا فظائع أكثر من النازية”. ومقابل ما نقلته وسائل الإعلام البولندية من آراء، عن تذكير الاتحاد الأوروبي لشعبهم بالشيوعية، ردّ كتاب و صحافيون غربيون بالقول إن “بولندا تذكرنا أكثر فأكثر بالفاشية”. بل أن تصريحات سياسية في دول الشمال رأت أن “بقاء بولندا عضواً ينافي كل تعهدات 1993، عن معايير كوبنهاغن لقبول العضوية”.
على الأقل في الجانب الغربي، الذي رأى ورطة في حاجته لبولندا في مواجهة “حرب باردة جديدة” مع الروس، ثمة معسكر داعٍ إلى المضي لتفعيل المادة السابعة من معاهدة الاتحاد. وهي مادة نصّت على معاقبة الأعضاء إذا ما عارضوا ميثاقه أو معايير العضوية. وبهذا يتمّ تجميد حق بولندا في التصويت داخل مؤسسات الاتحاد الأوروبي. وهو أمر جرى التلويح به مراراً خلال السنوات الماضية، لكن هذا الخيار في حاجة للتصويت بالإجماع. وهنا دور المجر، بحكومة فيكتور أوربان، السائرة أيضاً نحو “ماضيها الكئيب” بحسب وصف الأوروبيين الغربيين، والرافضة لاستخدام حق النقض مخافة أن يصيبها ما يصيب بولندا من عقوبات.
مخاطر السكوت، أو عدم القدرة على اتخاذ إجراءات جماعية، وربما الاكتفاء بخطوات فردية ألمانية وفرنسية مع دول أوروبية اقتصادية صغيرة بحق بولندا، اعتبره مختصون أوروبيون في شؤون تطور واقع اليمين المتطرف بمثابة “عجز سيقود إلى مزيد من الدول التي تهيمن فيها سياسة التحكم القومي اليميني. وهذا كابوس لديمقراطية دول الاتحاد”.
المصدر:العربي الجديد