لماذا يفضل البولنديون التحايل على القوانين؟
عندما شعر جدي اليهودي بأن النازيين أصبحوا قاب قوسين أو أدنى منه إبان الحرب العالمية الثانية، قرر الرحيل عن أوكرانيا إلى العاصمة البولندية وارسو، حيث يسهل الاختباء بين سكانها.
ولم يكد يصل إلى العاصمة البولندية، حتى رأى امرأة تبيع الخبز في المحطة المركزية تحت لافتة ضخمة تحذر بقتل من يبيع الخبز في هذه المنطقة.
وكتب جدي في مذكراته، أنه على عكس الأوكرانيين الذين يمتثلون للأوامر والنواهي دون نقاش، فإن أهل وارسو لا يلقون لها بالا. وكان جدي يرى أن هذا التناقض يدل على قدرة سكان وارسو الفائقة على المراوغة، أي الوصول إلى الهدف بأساليب نصف قانونية أو احتيالية.
إذ لا يكترث الشعب البولندي، ولا سيما سكان وارسو، للقواعد واللوائح، وهذا ينعكس على اللغة البولندية التي تزخر بالكثير من الكلمات التي تصف التحايل على القوانين، مثل “سفانياك” التي تعني مراوغ، و”زواتفيتش” التي تعني الاستعانة بالمعارف والحيل والأساليب غير القانونية للوصول إلى الهدف.
وينظر البولنديون للشخص الذي يمكنه التحايل على النظام لتحقيق مآربه وإنجاز مهامه، بعين التقدير والإعجاب.
تقول مارتينا غوزدزيوك، رئيسة مؤسسة وارسو للهجات، إن كلمة “سفانياك” قديما كانت تصف الشخص الذي يمكنه تحدي صعوبات الحياة.
لكن تاريخ المدينة الحافل بالاضطرابات والحروب دفع سكانها إلى ابتكار حيل جديدة تساعدهم على البقاء على قيد الحياة.
وفي عام 1944، اشتعلت في وارسو ثورة ضد النازيين. رأى البعض أنها وئدت في مهدها، في حين أن الكثيرين يقولون إنها تثبت مدى استعداد سكان وارسو لحل مشاكلهم بأنفسهم دون الاعتماد على أحد، مهما كلفهم الأمر.
ورغم أن احتجاجات وارسو لم تحقق أهدافها، وأسفرت عن مقتل مئات الآلاف، كان أكثرهم من المدنيين، إلا أن أهل المدينة لا يزالون يحتفلون بذكراها كل عام تقديرا لشجاعة كل من شارك فيها وحماستهم والتضحيات التي قدموها للبلاد.
وقبل هذه الاحتجاجات، ظهرت حركة مقاومة في بولندا، وخاصة في وارسو، أثناء الحرب العالمية الثانية، وانتشرت شعارات عديدة تعبيرا عن المقاومة البولندية كان أبرزها شعار “الكوتويكا” المكون من الحرفين الأولين لشعار (بولندا المناضلة)، ولم يختف هذا الشعار حتى الآن من شوارع ومباني وارسو.
وانتشر أيضا شعار “السلحفاة” مصحوب بالحروف الأولى لعبارة (اعملوا ببطء)، لتشجيع البولنديين على تجاهل الأوامر وتخريب شركات النازيين وعرقلة أنشطتهم.
وفي غمرة الحرب العالمية، تعرضت وارسو لقصف جوي مكثف انهارت على إثره معظم مباني المدينة وغدت وارسو شبه مدمرة.
لكن هذه المحنة كانت بمثابة اختبار لصمود العاصمة البولندية. فقد أجبر القصف والدمار الكثير من سكان المدينة على الفرار منها، لكن أكثرهم عزيمةً قرروا العودة إلى مدينتهم وبذل قصارى جهدهم لبدء حياتهم من جديد وسط ركام المباني والمنازل المهدمة.
وتقول هانا دزيلينسكا، مرشدة سياحية في وارسو: “هؤلاء العائدون قد تسميهم مراوغين، كونهم حاذقين وماكرين كالثعالب، أو قد ترى أنهم أشخاص وطنيون ارتبطوا بمسقط رأسهم، فهذا يتوقف على نظرتك للأمور”.
وقد خلفت الحرب دمارا واسعا في مدينة وارسو إلى حد أن السلطات البولندية كانت تدرس نقل العاصمة إلى مدينة أخرى، لأن إعادة إعمار مدينة مهدمة بالكامل سيتطلب مجهودا استثنائيا غير مسبوق.
لكن الشعب البولندي قرر أن يتصرف بنفسه دون الاعتماد على الحكومة، وتدفق البولنديون، ومنهم جدي، جماعات وفرادى على وارسو، تملأهم الحماسة لبناء المدينة من جديد. وبدأوا ببناء منازل جديدة على أنقاض القديمة لأنهم كانوا ببساطة يحتاجون لمساكن تؤويهم، رغم معارضة الحكومة.
وأخذت أعمال البناء والإعمار تنتظم تدريجيا في المدينة وسرعان ما دفعت السكان رغبة ملحة لإعادة بناء العاصمة.
وفي عام 1945، تأسس مكتب تعمير وارسو، الذي تولى مهمة إعادة إعمار المدينة، بالاستعانة بالمخططات المعمارية للمدينة القديمة ولوحات فنية تعود للقرن الثامن عشر.
إذ شيد سكان وارسو مدينتهم الجديدة بسواعدهم، بمعنى الكلمة. وأزالوا بأنفسهم الركام والحطام، واستخدموا الحجارة والطوب من المباني المهدمة في وراسو وبعض المدن الأخرى أحيانا، لتستعيد منطقة البلدة القديمة في قلب المدينة، مجدها وجمالها. وأدرجت اليونيسكو البلدة القديمة ضمن قائمة التراث العالمي.
لكن فكرة إعادة بناء مدينة بأكملها كانت فريدة من نوعها آنذاك في المنطقة. إذ دمرت الحرب مدنا أخرى في إيطاليا وألمانيا وفرنسا، لكن كلا من هذه المدن قررت أن تعيد بناء أبرز المباني المهدمة فقط في شوارعها.
ويحمل أحد المباني في أبرز شوارع العاصمة عبارة “الشعب بأكمله بنى عاصمته”، محفورة بحروف بارزة، لتذكير الأجيال القادمة بالجهود التي بذلها آباؤهم وأجدادهم لإعادة إعمار المدينة.
وترى دزيلينسكا أن المراوغة هي المرادف للتحدي. وتقول: “إذا دمرت مدينتنا سنبنيها من جديد وستكون أجمل مرتين مما كانت عليه. فإن سكان وارسو يقاومون ويرفضون الأوضاع التي لا تعجبهم”.
وتجلى هذا التحدي في المقاومة البولندية للحكم الشيوعي الذي استمر خلال الفترة بين عامي 1947 و1989. إذ كانت السخرية والتهكم هي الوسيلة التي لجأ إليها البولنديون، ولا سيما في وارسو، للتعبير عن سخطهم على واقعهم القاسي، من رقابة صارمة ونقص في الطعام واعتقالات لأتفه الأسباب.
وزاد الإقبال آنذاك على الملاهي الليلية في ظل النظام الجديد، وكان روادها يتندرون على الساسة والرقابة والنظام الجديد برمته. وتقول دزيلينسكا: “المراوغ في وارسو هو الشخص الهادئ والواثق من نفسه الذي يحافظ على رباطة جأشه. فالمراوغة هنا تعني أن تواجه الصعوبات والمشاكل بهدوء وابتسامة”.
لكن مدينة وارسو لا تزال تحمل آثار تاريخها المشحون بالاضطرابات حتى الآن رغم انتهاء الحكم الشيوعي في عام 1989، إذ كثيرا ما يصف السياح العاصمة البولندية بأنها حزينة وباهتة.
لكن دزيلينسكا تقول إن بعض المدن، مثل برلين وروتردام ووارسو، لا يكمن جمالها في فخامتها وعظمتها، كبعض المدن الأخرى في غرب أوروبا التي شهدت اضطرابات محدودة مقارنة بمدينة وارسو.
لكن وارسو بدأت مؤخرا في طي صفحة الماضي الكئيب وإن كان ببطء. وتقول دزيلينيسكا، إن الكثير من السياح يتفاجؤون بنظافة الشوارع وأشجارها المنسقة وأنظمة النقل والمواصلات المتطورة. ويندهش الكثيرون حين يعرفون أن البلدة القديمة تهدمت كلها تقريبا وشيدت من جديد.
وهناك الكثير من المعالم الأخرى في المدينة، مثل المتنزهات والمتاحف، كمتحف “وارسو تزدهر” ومتحف بولين لتاريخ اليهود البولنديين. ودُشنت مشروعات فنية جديدة لتعريف سكان وارسو بقيمة مدينتهم، مثل مشروع “وارسزاوياك” وهو فريق غنائي لإضفاء صبغة حديثة على أغاني وارسو القديمة.
وبخلاف قدرة المدينة على النهوض من الرماد، وصمودها في سنوات النظام الشيوعي، تزخر المدينة بسمات أخرى تبعث على الفخر. وتقول ديزيلنسكا، إن جمال هذه المدينة ليس تقليديا، فقد مرت هذه المدينة بالكثير من المحن والصعاب، لدرجة أن السياح كثيرا ما يصفون سكانها بالأبطال عندما يعرفون أنهم بنوا مدينتهم من جديد.
المصدر : بي بي سي BBC Arabic – أولغا ميكينغ