بعد فوزه في الإنتخابات .. دودا أمام خيارين ؟
بقلم رئيس التحرير – وسيم أبو حسن
أظهرت نتائج الجولة الثانية من الإنتخابات الرئاسية مدى إنقسام المجمتع البولندي حول التوجهات السياسية للبلاد ، بين جناح اليمين المحافظ الممثل بـ حزب القانون والعدالة الحاكم ، والتوجه الليبرالي بقيادة التحالف المدني المعارض .
وأظهرت نتائج الجولة الثانية فوز الرئيس أندريه دودا بـ 51% من الأصوات ، فيما حصل مرشح التحالف المدني المعارض رافاو تشاسكوفسكي على 49% من الأصوات .
ولم يقتصر الإنقسام في المجتمع البولندي على نسب التصويت فقط ، بل أيضاً على الطريقة التي صوتت بها المقاطعة البولندية ، حيث حقق رافاو تشاسكوفسكي الفوز في 10 مقاطعات بولندية ( غرب ووسط بولندا ) ، أما الرئيس دودا فحقق الفوز في 6 مقاطعات فقط ( شرق ووسط بولندا ) وهو ما قد يعبر عن توجهات سكان تلك المدن ، ورغم أن 10 مقاطعات أعطت النسبة الأعلى من الأصوات لمرشح المعارضة ، الا أن الرئيس دودا هو من فاز في الإنتخابات !
فوز بطعم الخسارة !
لا يمكن إنكار أن الجولة الثانية عكست الحالة الديمقراطية التي تعيشها بولندا ، خصوصاً مع نتائج متقاربة جداً ، وهو ما أخر الإعلان عن الفائز فيها حتى فرز أكثر من 99% من الأصوات ، الا أنها في الوقت ذاته تدل على مدى الإختلاف في وجهات النظر بين البولنديين ، فالبرنامج الإنتخابي للمرشحين كان متناقض بشكل ملحوظ ، كما هي توجهاتهم وميولهم السياسية .
وأياً كان من سيصل الى سدة الرئاسة ، فإنه سيتولى مسؤوليتاته كرئيس لبولندا ، رفض نصف الشعب التصويت له ، نظراً لعدم التوافق مع نظرته السياسية والمستقبلية للبلاد ، وإن كان دودا قد فاز في العهدة الثانية من الرئاسية ، الا أنه بلغة الأرقام خسر قسم من أصوات مناصري تحالف اليمين ( القانون والعدالة ) الذين صوتوا لصالحه في إنتخابات مجلس النواب ، كما أنه خسر في 10 مقاطعات من أصل 16 مقاطعة بولندية
مجتمع منقسم !
لن تكون الولاية الرئاسية القادمة لـ الرئيس دودا مشابهة لـ الولاية الرئاسية الماضية ، وذلك نظراً لأن فوزه في الإنتخابات كان بفارق ضئيل عن منافسه الليبرالي ، وسيصطدم الرئيس مع كل قرار يتخده بـ أصوات تذكره بأن ما يقارب من نصف الشعب غير راضي عن سياسته .
كما سيكون الرئيس البولندي خلال الولاية الرئاسية القادمة أمام تحداً كبير ، وهو إعادة توحيد البولنديين المنقسمين حالياً ، عبر الأخذ بعين الإعتبار بأن هناك وجهات نظر مختلفة عن سياسته ، وسياسة حزب القانون والعدالة الحاكم .
وإن كان الرئيس قد أكد خلال حملته الإنتخابية على عدد من المبادئ التي لن يتراجع عنها كقضية الحق في الإجهاض ، وزواج المثليين ، وبرامج المساعدة الإجتماعية ، الا أنه سيضطر الى التعامل بوسطية أكثر من ما مضى مع باقي الملفات لمحاولة رأب الصدع المجتمعي .
العلاقات مع الإتحاد الأوروبي
لا يخفى على أي متابع للشأن السياسي الأوروبي أن العدد الأكبر من دول غرب أوروبا كانت تعول على وصول رئيس ليبرالي الى سدة الرئاسة ، لكبح جماح حزب القانون والعدالة الذي يسيطر على البرلمان والحكومة بشكل تام ، وليكون لدى المعارضة طريقة لنفض قرارات مجلس النواب ( فيتيو ) ، وذلك للتوصل الى حلول مرضية للملفات العالقة بين بولندا والإتحاد الأوروبي .
ولعل أحد أبرز نقاط الخلاف التي كان يأمل الإتحاد الأوروبي حلها هو ملف التعديلات القضائية التي أقرها سابقاً حزب القانون والعدالة ، والذي أشار إليها الإتحاد الأوروبي على أنها ” سياسة لتقويض القضاء ” كما قالت المعارضة عن هذه التعديلات أنها تهدف الى ” تكميم أفواه القضاة ” .
الى جانب عدة قضايا خلافية أخرى منها ميزانية الإتحاد الأوروبي للسنوات الخمسة القادمة ، وقبول بولندا بحصتها من اللاجئين ، ورغبة بولندا ( الى جانب حلفائها في شرف أوروبا ) بإدخال تعديلات على آلية عمل المفوضية الأوروبية والإتحاد الأوروبي .
وكانت بولندا قد أعلنت سابقاً عن تجميد القرارات الخاصة بـ التعديلات على القضاء تحت ضغط أوروبي ، ولترافق ذلك مع فترة التحضير للإنتخابات الرئاسية ، وما سبقها من خلافات حول تحديد موعد وطريقة إجراء الإنتخابات ، ومن غير الواضح إن كانت السلطات البولندية ستبقي على قرار التجميد أم ستتراجع عنه بعد فوز دودا في الإنتخابات
المزيد من التقارب مع شرق أوروبا
تسملت بولندا قبل أسابيع قليلة رئاسة مجموعة فيسيغراد لدول شرق أوروبا ، والتي يسيطر فيها أحزاب اليمين المحافظ على سلطة الحكم ، وتعتبر بولندا عرابة هذه المجموعة الغير راضية عن سياسة الإتحاد الإوروبي في العديد من القضايا .
وكان قادة المجموعة قد إلتقوا في بولندا قبل أيام قليلة من المرحلة الأولى من الإنتخابات بمناسبة تولي بولندا لرئاسة المجموعة للتباحث في عدد من القضايا ، على رأسها التعاون الإقتصادي في ظل جائحة كورونا ، وميزانية الإتحاد الأوروبي للسنوات الخمسة القادمة ، حيث تأمل هذه الدول في الحصول على الكم الأكبر من هذه الميزانية ضمن برامج المساعدات الأوروبية .
وتعهدت بولندا خلال الإجتماع بتكثيف العمل مع دول مجموعة فسيغراد للتوصل الى قرارات توافقية بين هذه الدول ، تجعل صوت دول المجموعة موحد خلال إجتماعات المفضوية الأوروبية والإتحاد الأوروبي .
الا أن القسم الأكبر من المعارضة البولندية كانت معارضة لهذا النوع من السياسة التي تتبعها مجموعة فيسيغراد تجاه الإتحاد الأوروبي ، وذلك لكونها – بحسب المعارضة – تظهر نوع من العدائية تجاه باقي دول الأتحاد ، كما أنها تُظهر هذه الدول وكأنها تُشكل إتحاد منفصل داخل الإتحاد الأوروبي
ولعل الرئيس أندريه دودا سيواجه معارضة أكبر اليوم في طريقة التعاطي مع الإتحاد الأوروبي ، من معارضة أثبتت أنها تحظى بتأييد نصف الشعب !
الخلافات مع دول الجوار
شهدت فترة سيطرة حزب القانون والعدالة على مفاصل الحكم نشوب خلافات بين بولندا وجيرانها وعلى رأسهم ألمانيا وروسيا .
فمنذ وصول فوز القانون والعدالة بالأغلبية البرلمانية ، ووصل الرئيس أندريه دودا الى سدة الحكم ، بدأت الأصوات ترتفع في البرلمان البولندي لمطالبة ألمانيا بدفع التعويضات عن الحرب العالمية الثانية ، بحجة أن السلطة التي وقعت على إتفاقية نهاية الحرب ودفع التعويضات بعد الحرب العالمية الثانية لم تكن حكومة شرعية مختارة من الشعب .
كما شهدت الفترة ذاتها تصاعد الخلاف مع روسيا ، بداية من تفاصيل التحقيق في قضية تحطم الطائرة الرئاسية في سمولنيك ، والتي لقي فيها الرئيس البولندي ليخ كاتشينسكي ( شقيق زعيم حزب القانون والعدالة ياروسلاف كاتشينسكي ) مصرعه الى جانب العشرات من كبار المسؤولين والسياسيين في الدولة، بينهم رئيس أركان الجيش وكبار القادة السياسيين، ومن بينهم بعض قادة المعارضة.
ولعل الخلاف الأبرز حالياً يدور حول خط نقل الغاز الروسي ندورد سريم 2 والذي تعارضه بولندا بشكل مطلق ، لكونه – بحسب الحكومة – يشكل تهديد لأمن الطاقة في بولندا ومجمل دول الإتحاد الأوروبي
ومن غير الواضح إن كان الرئيس البولندي أندريه دودا ومن خلفه تحالف اليمين ، وبعد فوزه بفارق ضئيل عن منافسه رافاو كاتشينسكي ، سيستمر في السياسة ذاتها تجاه دول الجوار ، أم أنه سيقوم بتغيير هذه السياسة التي إتبعها خلال السنوات الخمس الماضية تحت ضغط من المعارضة التي باتت أكثر قوة حالياً
بولندا والولايات المتحدة
يعزز فوز الرئيس أندريه دودا في الجولة الثانية من الإنتخابات في التقارب بين الإدارة الأمريكية برئاسة الجمهوري دونالد ترامب ، والحكومة البولندية بقيادة حزب القانون والعدالة ، خصوصاً وأن الرئيس الأمريكي كان داعماً للرئيس البولندي ، وكان ذلك واضحاً بدعوته لـ دودا لزيارة البيت الأبيض قبل ثلاثة أيام من الجولة الأولى من الإنتخابات ، وهي زيارة لم يتم خلالها التوقيع على أي من الإتفاقيات ، وإقتصرت على جولة مباحثات استمرت لساعات قصيرة .
كما أن فوز دودا في الجولة الثانية ، واستمراره في رئاسة بولندا لخمس سنوات أخرى ، يعتبر بمثابة صافر البداية للمشاريع المشتركة التي تم الحديث عنها سابقاً ، خصوصاً في مجال التعاون الدفاعي ، ونقل الجنود الأمريكيين الى بولندا ، إضافة الى التعاون في مجالات الطاقة ، والأمن السيبراني وغيرها من القطاعات
خياران لا ثالث لهما
يواجه الرئيس البولندي أندريه دودا تحدياً صعباً ، وربما سيكون محدداً لمصير تحالف اليمين في أي إنتخابات مقبلة ، والذي يتمحور حول طريقة إدارته للبلاد خلال الفترة القادمة في ظل مجتمع منقسم على نفسه .
وسيكون الخياران المطروحان أما الرئيس الآن ، إما الإستمرار في سياسته الحالية ، رغم معرفته بأن نصف البولنديين رافضين لها ، وإما محاولة التعديل على طريقة تعاطيه مع الملفات الخلافية ، لإعادة التقارب بين شقي المجتمع .
وفي حال لم يتوصل الرئيس الى صيغة حكم ترضي الطرفين ( المحافظين – الليبراليين ) خلال فترة ولايته القادمة ، فإن تحالف اليمين سيكون الخاسر الأكبر خلال المرحلة القادمة ، فأي تراجع للرئيس عن سياسته المحافظة ، قد تفقده الدعم الذي يحظى به من أنصار تحالف اليمن ، كما أن إستمراره في السياسة ذاتها ، ستزيد من غضب معارضيه ، كما ستتسبب في المزيد من الفرقة بين البولنديين بمعسكريهم الليبرالي والمحافظ .