بولندا مجتمع
جروح غائرة في وارسو جرّاء إعادة تخصيص العقارات
على مدى نصف قرن، عاشت تيريزا مع أسرتها في الشقة التي ولدت فيها، التي تبلغ مساحتها 70 مترا مربعا وتقع في شارع أنيق في وسط وارسو.
إلا أنه فجأة ذات يوم، وصل عميل وأخبرها بأن الشقة المستأجرة التي كانت قد استأجرتها الأسرة من المدينة، قد أعيدت “خصخصتها”- أو إعادتها إلى ملكية القطاع الخاص.
بعد معركة طويلة الأمد، طلب من الأسرة الانتقال في عام 2007. بعد أن أخطأت إلى حد ما في تطبيق معايير المدينة الخاصة بإعادة الإسكان، فانتقلت تيريزا أولا مع ابنها إلى شقة ابنتها الأصغر حجما بكثير.
الحياة في مثل هذا المكان الضيق أدت إلى إثارة صراعات، وبعد أن تزوجت ابنتها وميلاد طفل باعت تلك الشقة، فانتقلت تيريزا مرة أخرى. الآن وقد بلغت الستين من عمرها، تعيش في غرفة قدمها لها نشطاء، في الوقت الذي تحاول فيه إقناع المدينة لتقديم سكن لها. تقول تيريزا بصوتها الذي تطغى عليه الدموع “انهارت حياتي كاملة. ذهب زوجي وتركني، لم يعد يمكنه التأقلم مع الوضع.
كنت أتعالج من مرض الاكتئاب في مستشفى للأمراض النفسية… ليس لدي عنوان ثابت، ما يعني أنه لا يمكنني المشاركة في التصويت، لا يمكنني إجراء أي عمل مصرفي، أنا لست موجودة على قيد الحياة. هذه هي العواقب المترتبة على عملية إعادة الخصخصة”.
تجربة تيريزا ليست بالتجربة الوحيدة، فقصتها جزء من مشهد غضب أكثر ضجة سببه استرداد الممتلكات التي تم تأميمها من قبل النظام الشيوعي في بولندا التي أدت إلى ترك آثار عميقة في كل من مجتمع وارسو والمدينة نفسها.
لا توجد أرقام دقيقة، ومع ذلك يقول الناشطون “إنه على مدى الثلاثين عاما الماضية، كان يتعين على آلاف المستأجرين مغادرة منازلهم بعد أن أعيدت خصخصتها”.
في الوقت نفسه، تم تشويه تطور المدينة: حيث تعاني الفراغات في البنايات التي تمت تسويتها بالأرض، والمنتشرة في أنحاء العاصمة البولندية، جراء التخلف عن التنمية، وإحدى الشقق التي كانت ضخمة ذات مرة، توقف العمل فيها بينما يتصارع الورثة حول التعويض، وفي وسط أحد الحدائق، قام مالك ببناء جدار ارتفاعه مترين حول قطعة أرض أعيدت خصخصتها.
السبب الأصلي لهذه النزاعات يكمن في عملية إعادة إعمار وارسو في فترة ما بعد الحرب. بحلول عام 1945، كان قد تم تدمير نحو 85 في المائة من مباني المدينة وتناقص عدد سكانها بنحو ثلاثة أرباع ليصل عددهم إلى 330 ألف نسمة.
لتسهيل عملية إعادة الإعمار، أصدر النظام الشيوعي بقيادة بوليسلاف بيروت مرسوما في تشرين الأول (أكتوبر) من عام 1945 يسمح من خلاله بتأميم الممتلكات داخل حدود المدينة ما قبل الحرب. نظريا، قد تتسبب تلك الأراضي التي صودرت في المطالبة بتعويض. في الواقع، تم قبول جزء قليل فقط من المطالبات التي بلغ عددها 17 ألف طلب.
عندما سقط الستار الحديدي، تم تقديم آلاف المطالبات بالتعويض إلى سلطات المدينة. بالنسبة إلى كثير من الورثة، كانت تلك مسألة عدالة أساسية.
يقول تاديوش كوس، مقاتل يبلغ من العمر 83 عاما من رابطة أصحاب الأملاك في وارسو، الذي خاض منذ 15 عاما معركة مع المدينة حول استخدام أراضي الأسر الواقعة على زاوية شارع مارسزالكوسكا وسويتوكرزيسكا، وهما اثنان من الشوارع الرئيسية في وسط وارسو “هنالك ثلاثة حقوق أساسية: الحق في الحياة، والحق في الحرية، والحق في الحصول على ممتلكات”.
تقول جماعات المستأجرين “إن المسألة ليست بهذه البساطة”. يقول جان سبايواك، مستشار في المدينة يقف في طليعة معركة إعادة الخصخصة “لا يمكنك تغيير المراسيم الإدارية بعد مضي 70 عاما، لأن هنالك عددا كبيرا جدا من القرارات التي اتخذت استنادا إليها. يمكننا تقديم التعويض، إلا أنه لا يمكننا إعادة المباني والتظاهر كما لو أنه لم يحدث أي تغيير”.
لقد كانت عملية إعادة إعمار وارسو بمنزلة جهد جماعي، بحسب ما تضيف إيوا أندروسزكيويك، وهي ناشطة من أنصار المستأجرين.
وتضيف “عندما كانت أمي شابة، كانت تذهب مع صديقتها بعد المدرسة إلى البلدة القديمة لتحميل الطوب “للبنائين وذلك لمساعدتهم على إعادة بناء المدينة”. عندما تشتري كتابا، يذهب جزء من الربح إلى عملية إعادة إعمار المدينة.
في عام 1945، كانت وارسو عبارة عن أكوام من الأنقاض مع جثث الموتى. في عام 2010، أصبحت لدينا فنادق فاخرة. هل ينبغي المطالبة بامتلاك الفندق لأن تلك الأنقاض كانت لمنزلي؟ لا أعتقد ذلك.
ازدادت قضايا الملكية المعقدة صعوبة بسبب حقيقة أنه بينما كانت بعض المطالبات بالتعويض حقيقية، فإن البعض الآخر منها لم يكن كذلك.
كانت المطالبات قابلة للتداول، ولذلك استغل رجال الأعمال عديمو الضمير الثغرات القانونية للاستيلاء على الممتلكات مقابل جزء ضئيل من قيمتها.
في بعض الحالات، قاموا بشراء المطالبات من الورثة الذين أرهقتهم المعارك القانونية التي لا تنتهي.
في حالات أخرى، حيث لا يمكن العثور على أي من الورثة، كان التعويض ممكنا مقابل جزء من المطالبة ككل، وتمكنوا من الاستحواذ على بعض الممتلكات استنادا إلى تأكيدات بعيدة المنال حول وجود ورثة لا يمكن تعقبهم. ثمة حيلة أخرى تضمنت إنعاش شركات ما قبل الحرب لتكوين مطالبات.
جنبا إلى جنب مع رفع القيود المفروضة على قواعد الإيجار، كانت العملية ذات تكلفة اجتماعية ضخمة. يقدر مجلس المدينة أنه منذ عام 1990، تم اتخاذ أربعة آلاف قرار بشأن عملية إعادة الخصخصة، ما أدى إلى الإضرار بنحو 17 ألف مستأجر، كما جرت إعادة تسكين 3500 شخص منهم من قبل مجلس المدينة.
في الشقق المملوكة من قبل المدينة، تمت السيطرة على الإيجارات. في القطاع الخاص، تلاشت مثل هذه الإجراءات الوقائية، ويستشهد النشطاء بعدد كبير من الأساليب المستخدمة من قبل الملاك، لإرغام المستأجرين القدامى على إفساح المجال أمام بدائل مربحة أكثر.
يقول جان بوبلافسكي من مياستو جيست ناسزي، جماعة ناشطين في المدينة “قد يقومون بفصل الكهرباء أو التدفئة، أو قد يشرعون في ترميم السقف أو المدخل الرئيسي المشترك، ويدوم هذا لبضع سنوات”.
إضافة إلى التكلفة البشرية التي تقتضيها عملية إعادة الخصخصة، يجري أيضا تحفيز حالة الغموض القانوني التي تتسبب فيها في وارسو، مع تجنب المستثمرين شراء قطع أراضٍ معينة خوفا من المطالبات.
المثال الأكثر إثارة للدهشة هو بلاك ديفيلاد. بعد أن كانت منطقة ذات كثافة سكانية مرتفعة، تمت إعادة بناء المساحة الضخمة الواقعة في قلب وارسو بعد الحرب، لتصبح ساحة اصطفاف بعد أن أصبحت الآن موقف حافلات شبه فارغ.
بعض المناطق التي تم استردادها لا تخلو من المشاحنات القانونية. عمل كوس على استعادة معظم أراضي أجداده الواقعة على زاوية بلاك ديفيلاد، إلا أن قوانين التخطيط في المدينة لن تسمح له ببناء مبان دائمة.
النتيجة هي مواجهة سيسمح كوس من خلالها لبائعي الكباب والهوت دوج بفتح أكشاك لهم على أرضه، ومن ثم تبدأ السلطات حسب الأصول في إجراءاتها القانونية.
يقول كوس فرحا “أنا أخسر، ومن ثم تجري مباشرة إزالة الأكشاك. بعد مضي أسبوع، تعود مرة أخرى على بعد ثمانية أمتار وتبدأ الإجراءات من جديد. في المتوسط، يدوم ذلك على مدى عامين ونصف”.
منذ أن بدأت الصحافة البولندية الإبلاغ عن بعض قضايا إعادة الخصخصة المثيرة للجدل في عام 2016، تعرضت سلطات مدينة وارسو لانتقادات شديدة.
عملت حنا جرونكيويكز-والتز، عمدة المدينة منذ كانون الأول (ديسمبر) من عام 2006، على إقالة ثلاثة من موظفي مجلس المدينة. وتقول “إن أصل المشكلة هو افتقار بولندا إلى وجود إطار قانوني شامل لحل قضايا ملكية الأراضي”.
وتضيف في إشارة إلى القوانين التي أقرت من قبل جيران بولندا، التي عملت إلى حد كبير على تسوية قضايا التعويضات “منذ البداية. بولندا بحاجة إلى قانون للتعويضات، مثل قوانين تم إقرارها في المجر وسلوفاكيا والتشيك. أنا أعلم أن ذلك أدى إلى نشوء مشكلات، لكنها نُسِيت الآن. لقد انتهى الأمر الآن ولم يعد له وجود”.
حزب القانون والعدالة الحاكم في بولندا وضع مشروعاً لقانون يهدف إلى القيام بهذا الأمر بالذات. من غير الواضح متى سيصبح جزءا من سجله الرسمي للقوانين.
مشروع القانون يحظر إعادة الممتلكات التي يعيش فيها المستأجرون ويضع حدا أعلى للتعويضات النقدية بنحو 20 في المائة من قبل العقارات التي هي قيد التأميم.
يشتكي أصحاب المساكن من أنهم لم يُستشاروا عند صياغة مشروع القانون.
يقول كوس “ما يعملون عليه الآن هو إجراء بلشفي”. تعرض مشروع القانون لانتقادات من جماعات الناجين من المحرقة النازية، لأن من شأنه أن يسمح بالمطالبات من أزواج وأولاد المالكين المباشرين، فحسب”.
بالنظر إلى مستوى الدمار الذي تعرضت له العائلات اليهودية خلال الحرب العالمية الثانية، فإن كثيرا من ورثة أصحاب العقارات في وارسو ليسوا من الذرية المباشرة للمالكين. في الشهر الماضي، كتب 59 عضوا من مجلس الشيوخ الأمريكي إلى رئيس الوزراء البولندي، يحضونه فيه على إجراء تعديلات على مشروع القانون المزمع استصداره.
وفي الوقت الذي يعترك فيه السياسيون، تنتظر تيريزا لتسمع ما إذا كانت ستتم الموافقة على طلبها من أجل مسكن. وتقول “ليس لدي اعتراض على الخصخصة، فإذا كان شخص ما هو المالك قبل الحرب العالمية الثانية، واستثمر في بيته ثم أخذه الشيوعيون. في هذه الحالة أفهم أنهم يريدون استعادته، إلا أن ذلك لا يمكن أن يجري على هذا النحو. لا يجوز إلقاء الناس إلى الشوارع على شاكلة التخلص من النفايات”.