عودة إلى نقطة الصفر.. كيف يغيّر التصعيد الروسي معادلة الدفاع بشرق أوروبا؟
بعد ما يزيد على ستة أشهر من الأمان، عاد دوي الانفجارات ليهز أرجاء العاصمة كييف، يوم الاثنين، حيث تعرضت عدة مواقع فيها لقصف جوي عنيف. فيما لم يقتصر التصعيد الروسي على ضرب العاصمة، بل طال مدناً كانت لأمد قريب بعيدة عن رحى الحرب الدائرة منذ مارس/آذار.
هي “مواقع القيادة العسكرية وأنظمة الاتصالات والطاقة في أوكرانيا” حسب ما كشف الناطق باسم وزارة الدفاع الروسية، إيغور كوناشينكوف، مؤكداً أن “هدف الضربة تحقق إذ أصيبت كل المواقع التي حُددت”. وأعلنت هيئة الأركان الأوكرانية، أن روسيا استخدمت 84 صاروخاً موجهاً و24 طائرة مُسيّرة، 13منها “شاهد- 136” الإيرانية، في تلك الضربات.
بعد ساعات قليلة بُعيد القصف، خرج الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ليوضح بأنه رد بلاده على تفجير جسر القرم، يوم السبت، والذي اتهم أوكرانيا بالضلوع فيه. وقال يوتين: إن كييف “تعتمد ممارسات إرهابية”، ولأجل ذلك “وجهنا ضربات بمختلف أنواع الأسلحة لمواقع عسكرية أوكرانية وردنا سيكون أشد على أي أعمال إرهابية”.
وكانت السلطات الروسية قد كشفت قبلها عن جزء من التحقيق في حادث التفجير، خالصة إلى أن مواطنين من روسيا ودول أجنبية ساعدوا الاستخبارات الأوكرانية في التحضير للهجوم. وأن الشاحنة المفخخة التي يعتقد باستخدامها فيه مرت على خمس دول، بداية من بلغاريا إلى جورجيا، ثم إلى أرمينيا، قبل أن تصل إلى أوسيتيا الشمالية، ومنها نحو القرم.
تضع هذه المستجدات الحرب في أوكرانيا، مرة أخرى، في حالة أشبه بتلك التي كانت عليها قبيل اندلاعها، حيث لا أحد يمكنه التنبؤ بما ستؤول إليه خلال الأيام القليلة القادمة، ما يدفع بتهديدات أمنية جديدة للبروز في مواجهة دول المنطقة، ويطرح أسئلة عديدة حول مدى تأثيرها على المعادلة الدفاعية هناك.
جيش موحد مع بيلاروسيا؟
تحت الزخم ذاته الذي أحدثه تفجير جسر القرم، اتهم رئيس بيلاروسيا، ألكسندر لوكاشينكو، دول جواره الأوروبي بالتخطيط لهجمات “إرهابية” مماثلة على أراضي بلاده. وقال لوكاشينكو، خلال اجتماع يوم الاثنين، إن “تدريب مقاتلين في بولندا وليتوانيا وأوكرانيا، ضمنهم متطرفون من بيلاروسيا، على القيام بأعمال تخريبية وأعمال إرهابية وانتفاضة عسكرية في البلاد، يصبح تهديداً مباشراً”.
وأضاف أن الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة يعتزمان فتح جبهة ثانية للحرب الأوكرانية في بيلاروسيا، و”يخططان لتعزيز دعمهما بشكل جدي للعناصر المخربة ولتفاقم الوضع على الحدود الغربية”. كاشفاً عن أنه أبلغ عبر قنوات غير رسمية، الأحد، بتحذير من ضربة محتملة “تنطلق من الأراضي الأوكرانية على بيلاروسيا”، وصفها بـ”جسر القرم 2”.
كل هذه كانت مسوغات قدمها الرئيس البيلاروسي لخطوة تعزيز روابطه الدفاعية مع موسكو، هذا ما سيتضح بإعلانه عن إنشاء “جيش موحد روسي-بلاروسي”. وقال لوكاشينكو: “بسبب تفاقم الوضع على الحدود الغربية لدولة الاتحاد (الروسية البيلاروسية)، اتفقنا على نشر جيش إقليمي من الاتحاد الروسي وجمهورية بيلاروسيا”.
ورغم ترديده الشعار الروماني القائل بأنه “إذا أردت السلام عليك أن تستعد للحرب”، وتصعيده في لهجة الخطاب الموجه لنظيره الأوكراني فلودومير زيلينسكي، ليس واضحاً لحد الآن ما إذا كان دور هذا الجيش سيصير دفاعياً أم هجومياً عبر المشاركة في العمليات العسكرية في أوكرانيا.
دعم عسكري أمريكي جديد لكييف
من جهة أخرى، طرحت الضربات الروسية الأخيرة أسئلة حول نجاعة الأسلحة الغربية في إعانة أوكرانيا. فبالرغم من الزخم الإيجابي الذي شهدته هذه المساعدات العسكرية مؤخراً، مع التقدم الكبير الذي أحرزه الجيش الأوكراني في استرداد بعض أراضيه، إلا أن نقاط ضعفه في الجو ما زالت قائمة، مع تلكؤ الحلفاء الغربيين في منح كييف دفاعات جوية تصد بها القوة الصاروخية الروسية.
وبعد القصف العنيف الذي شهدته المدن الأوكرانية مؤخراً، وافقت الولايات المتحدة على تزويد الجيش الأوكراني بتلك الدفاعات. هكذا تعهّد الرئيس الأمريكي جو بايدن، مساء الاثنين، بتزويد أوكرانيا بأنظمة دفاع جوي “متطوّرة”، على حد وصفه.
بالمقابل، لم يكشف أي مصدر عن نوعية تلك الأسلحة وطرازها، فيما رجحت صحيفة “بوليتيكو” الأمريكية أن يجري الحسم في هذا القرار لاحقاً هذا الأسبوع، خلال اجتماع مجموعة “دعم أوكرانيا” المرتقب بقاعدة رامشتاين الأمريكية في ألمانيا.
تحديات بولندا الكثيرة
بالنسبة لبولندا، المتاخمة لأرض الاقتتال الطاحن، يطرح المنعطف الأخير للحرب تحديات أمنية جديدة عليها، بداية بموجة جديدة من اللاجئين الأوكرانيين قد تستقبلها أراضيها. حيث حذر المفوض الأممي السامي للاجئين، فيليبو غرانديتو، من أن “يخلق الحدث الذي دام ساعات قليلة، موجة لجوء كبيرة”.
من جهتها، أعلنت وزيرة الأسرة والسياسة الاجتماعية البولندية مارلينا مالاج، عن أن بلادها تستعد لاحتمال موجة جديدة من اللاجئين من أوكرانيا بعد تكثيف الهجمات الروسية. هذا في وقت استقبلت فيه البلاد ما يزيد على 7.4 مليون لاجئ منذ اندلاع الحرب في الـ27 من فبراير/شباط الماضي.
في السياق ذاته، تمثل بولندا نقطة ارتكاز مهمة لتدريب القوات الأوكرانية على استعمال الأسلحة الغربية، ما يضعها في وجه تهديد روسيا وحلفائها، وفق مراقبين، وسيعرف هذا نشاطاً إضافياً عقب التطورات الجديدة، بعد كشف الولايات المتحدة عن نيتها تزويد كييف بأنظمة دفاع جوي، وإعلان كندا إرسال 40 خبيراً عسكرياً لتدريب القوات الأوكرانية.
وفي وجه هذه التهديدات المتصاعدة، طلبت وارسو من واشنطن نشر أسلحة نووية على أراضيها، من أجل معادلة كفة القوى مع الترسانة النووية الروسية على حدودها. وفي حديثه مع الصحافة المحلية، أكد الرئيس البولندي أندرجي دودا، دعمه لفكرة انضمام بلاده إلى برنامج “المشاركة النووية” لحلف الناتو، والذي يسمح للأعضاء النوويين نشر ترسانتهم من هذا السلاح على أراضي أعضاء آخرين لمواجهة خطر مشترك.
إضافةً إلى هذا أعلن الرئيس الأوكراني فلودومير زيلينسكي، يوم الاثنين، بداية تنسيق مشترك بين بلاده وبولندا لمواجهة التهديد الروسي. وقال زيلينسكي بأنه: “نسّق خطوات مشتركة مع رئيس بولندا، أندريه دودا لمواجهة روسيا، بعد الضربات الأخيرة على أوكرانيا”، ذلك من أجل “تعزيز الدعم الدولي وتقوية القدرة الدفاعية لأوكرانيا، واستعادة ما جرى تدميره، وزيادة عزلة روسيا”.
مأزق مولدوفا المزدوج
تعد مولدوفا من بين الدول التي وضعها التصعيد الأخير أمام تهديد مباشر، ودفع علاقاتها بموسكو إلى أن تسوء أكثر من ذي قبل. ذلك بعد اختراق ثلاثة صواريخ روسية، استخدمت في قصف أوكرانيا، لمجالها الجوي. ولأجله سحبت البلاد سفيرها من روسيا، مُبلغة الكرملين امتعاضها من الواقعة.
وقبل هذا، لم تَسلم مولدوفا من التهديد الروسي، عبر الوجود الروسي العسكري في منطقة ترانسنيستريا الانفصالية شمال البلاد. وفي حديث لمدير القسم الثاني لبلدان رابطة الدول المستقلة بالخارجية الروسية، أليكسي بوليشوك، اتهمت موسكو كييف بتحريض مولدوفا على القيام بأعمال عدائية ضد قواتها في الإقليم الانفصالي.
وقال المسؤول الروسي بأنه: “في الفترة بين أبريل/نيسان ويونيو/حزيران، من هذا العام وقعت سلسلة من الأعمال الإرهابية في ترانسنيستريا، وتؤكد سلطات تيراسبول أن مصدر هذه الهجمات موجود في أوكرانيا”. مضيفاً أن “كيشيناو تدرك جيداً عواقب تسخين النزاع على نهر دنيستر ولذلك لا تنجرف خلف هذه التحريضات”.
هذا التهديد، لا تملك مولدوفا القوة العسكرية الكافية لمواجهته، حيث لا يتعدى تعداد قواتها 5 آلاف جندي، من بينهم أقل من ألف في سلاح الجو. كما أنها لا تملك أسلحة جوية قوية، وتقتصر ترسانتها على مجموعة من طائرات الهليكوبتر، ولا بطاريات دفاع جوي قادرة على صد سلاح الجو الروسي. هذا بالإضافة إلى عدم عضوية مولدوفا في أي اتفاق دفاع مشترك غربي.
مع ذلك تختلف الحالة المولدوفية عن نظيرتها الأوكرانية، فمع طلب أوكرانيا الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي سعياً إلى الحماية المباشرة من دوله، ستظل تواجه مشكلة أنه لا وجود لآلية استجابة فورية لطلبها ذاك. عكس مولدوفا التي يمكنها أن تنضم فوراً إليه، إذا ما وافقت على توحيد أراضيها مع الأراضي الرومانية عبر استفتاء سريع. بل وستمكنها هذه الخطوة كذلك من الانضمام إلى الناتو الذي تعد رومانيا عضواً فيه منذ 2004.
وبدأت مولدوفا مناقشة هذه الفكرة فعلياً حتى قبل اندلاع الهجوم الروسي على أوكرانيا. وصرَّحت وقتها رئيسة البلاد، مايا ساندو، بأن “عديداً من سكان مولدوفا يريدون الاتحاد مع رومانيا وبذلك يندمجون مع الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي”.