كراكوف البولندية بين الواقع والأساطير
لم تعتزل مدينة كراكوف البولندية، أو المدينة الجميلة، دور البطولة على مسرح التاريخ، حين تخلت عن لقبها كعاصمة لبلادها لمصلحة وارسو العاصمة الحالية، ولم تنكفئ في كواليس الأحداث السياسية في القرن السابع عشر، بل ولم تسمح لتجاعيد الزمن باجتياح روائعها الهندسية والفنية والفريدة المتناثرة في كل بقعة فيها، ولا لشيب التاريخ بأن يضرب ما صبغه أبناؤها الأولون، بل بقيت مدينة شابة تعيش بروح متجددة تدعو الزائر إلى عالم لن يراه سوى في بولندا.
تأخذك المدينة في رحلة تعارُف داخل عربة إلكترونية تشبه قطاراً صغيراً، لتجول بك في شوارعها ومتاهاتها، لمشاهدة إبداعات فنانين حوّلوا فظاعة التاريخ إلى لوحة فنية مزجت بين الروعة والألم. فيها ثقل أهل الفن، الذاكرة الجماعية الأليمة للبولنديين على مر الزمن، وقدّموها لوحة فنية تُشعِر الزائر ببشاعة أحداث الزمن الماضي وجمال الفن.
تبدأ النزهة عبر التاريخ لتحكي كراكوف كيف تحولت ساحة وسط سوقها، وهي واحدة من بين أقدم الساحات في أوروبا، من ساحة لصوص إلى سوق يضم محلات أشهر الماركات العالمية، وأكشاك زهور حُولت إلى أفخم المطاعم العالمية. ازدهرت تلك الساحة في القرن السابع عشر، وساعدت في تمييزها، مركزيتها ومسطحاتها الواسعة الضاربة في القدم. كانت ولا تزال ملتقى النخب الفكرية والفنية العالمية، والتي تجد في هذا المكان التاريخي مصدر إلهام.
تقف العربة بين برج قاعة المدينة وبين قاعة “سوكينيسي”، والمعروفة أيضًا بقاعة القماش، أو المساكن القديمة. ويصمت صوت كراكوف عن الشرح ليسرح خيالك إلى عوالم القرون الوسطى بكل جمال هندستها المعمارية، ثم يُرجعك إلى اللحظة الآنية لحنٌ حزين من بوق فنان قابع عند أعلى برج كنيسة سانت ماري وسط الساحة، يدق كل ساعة مذكّرًا بعازف البوق الشهير في القرن 13 والذي قُتل خلال نفخه في بوقه محذّرًا من غارة يشنّها المغول على المدينة.
تنطلق عربة كراكوف وسط عربات تجرّها خيول بحُلة أنيقة تحولت إلى سيارات، إلى داخل المدينة العتيقة، تشير بإصبعها بفخر إلى شعلة المعمار القوطي والباروكي وعصر النهضة، لتروي 750 عاماً من التاريخ. جمال المدينة يحيّر المرء في أي اتجاه يقصد أو أي مقهى يرتاد.
بعدها تبدأ كراكوف قصتها حينما كانت مستوطنة صغيرة، إبان القرنين السادس والسابع. أسسها الأمير Krakus ” كراكوس”، والذي، وفقا لأسطورتها، كان المخلص من شر تنّين شرس أرعب أبناءها على مر سنوات. ويقول المرشد السياحي يوليو بودانسكي، لـ “العربي الجديد”: “إن أسطورة كراكوس ليست سوى بداية الأساطير الخيالية المتنوعة في هذه المدينة، كأسطورة أسراب الحمام الذي يملأ سماءها، يقال إن جنود الأمير البولندي هنري بروبس الرابع، حوّلتهم ساحرة محلية إلى حمام حتى يتمكن الأمير هنري من الاستيلاء على مقاطعة سينيورا، خلال فترة تفكّك بولندا القديمة بموافقة بابا روما، إلا أنهم لم يعودوا إلى شكلهم الأصلي أبداً ولم يحتل المقاطعة”.
كذلك قصة بُرجي “كاتدرائية سانت ماري” المتاخمة لسوق المدينة العتيقة وأسطورة قتل مهندسين شقيقين لبعضهما البعض حول اختلاف ارتفاعهما، ثم انتحار أحدهما بعدها. إلى أسطورة شُرب ماء للإنجاب أمام كاتدرائية بولوس الثاني، احتذاء بإحدى الأميرات كانت عاقراً، كما قال يوليو.
بين الخيال والواقع، تقودك الرحلة إلى داخل أهم وأشهر كاتدرائية في بولندا، لتستمع إلى روايات أبطال صنعوا بصمة كراكوف. صور وتماثيل عُلقت ونُصبت داخل كاتدرائية فافيل، ثالث كنيسة شُيدت عام 1364 على هضبة فافيل، مقر إقامة الملوك والملكات لخمسة قرون، وتحولت إلى متحف تاريخي هام.
ولعل الأساطير ليست أقل غرابة من واقع بولندا التي اختفت من على خريطة العالم إبان الحربين العالميتين، فما أن تصمت كراكوف عن الحديث حتى تجدك داخل حي اليهود الذي اختفى كل سكانه إبان الحرب العالمية الثانية، في معسكر الموت المعروف بـ “أوشفيتز”. معابد ضخمة ومدارس حوّلت إلى متاحف ومحلات تجارية لا تزال تحتفظ بصور أصحابها وباتت مطاعم تتحول ليلاً إلى أكبر تجمع لعشاق موسيقى الجاز.
تسترجع كراكوف ابتسامتها، لتأخذك في زيارة إلى عالمها السفلي الذي يحضن كل الفرح والغموض، وكأنها تقول إن عالمها ليس كله حزنا وأساطير، بل وليس ملحمة “الكوميديا الشعرية” المرعبة للكاتب الإيطالي دانتي أليغييري عن العالم السفلي. عبر سلّم سقفه منخفض، تبدأ رحلة النزول نحو الأعماق، وعبر ممر ضيّق، تأتي نسائم منعشة، تليها أصوات صحون وفناجين وكؤوس، ولعلعة ضحكات، وأنغام موسيقى الجاز وغيرها تصدح في الأجواء، لتنتهي وسط عالم سفلي يعود إلى القرن الرابع عشر، تنبعث منه رائحة وجبة شهية من أشهر المطاعم في العالم.
لارا ادريس -العربي الجديد