لماذا تتحول بولندا إلى صحراء أوروبا؟
يراقب تاديش نوربيشياك البالغ 85 عاما بقلق التراجع الكبير في مستوى مياه نهر فيستولا الذي يجتاز العاصمة البولندية، في مؤشر ليس إلى الجفاف فحسب بل أيضا إلى شح خطير في هذا المورد الحيوي يهدد بولندا.
ويقول هذا الرجل المتقاعد مرتديا سترة الصيد التقليدية “لا أذكر أني رأيت المياه بهذا المستوى المتدني كما هي الحال منذ سنوات. هذه مأساة”.
ويوضح لوكالة فرانس برس “كلما اتجهنا شمالا يصبح الوضع أسوأ، نهر فيستولا أشبه ببركة مياه”.
وعلى غرار فيستولا، يتقلص حجم مئات الأنهر في بولندا.
وقد حذر ديوان المحاسبة البولندي في تقرير أصدره الشهر الماضي بعنوان “بولندا، صحراء أوروبا”، من أن “كل بولندي لديه إحصائيا 1600 متر مكعب من المياه سنويا، أي أقل بثلاث مرات من المعدل في الاتحاد الأوروبي. مواردنا أشبه بتلك المتوافرة في مصر”.
ويبلغ المعدل الأوروبي 4500 متر مكعب سنويا لكل نسمة. والرقم القياسي مسجل لكرواتيا مع 27330 مترا مكعبا، بحسب هيئة الإحصاءات الأوروبية “يوروستات”.
كذلك تسجل تشيكيا مستوى متقاربا مع بولندا في هذا المجال، فيما تذيل قبرص ومالطا القائمة إذ لا تضم هذه الجزيرة الأخيرة سوى 220 مترا مكعبا من المياه لكل نسمة.
وخلافا للأفكار المتوارثة، لم تحظ يوما بولندا الواقعة عند ملتقى مناطق مناخية محيطية وقارية، بكميات مياه وافرة. وتشهد هطولا للأمطار بمعدلات أقل من بلدان أوروبا الغربية، فيما نسب التبخر متقاربة.
ومع التغيرات المناخية والتواتر الأكبر في مواسم الجفاف والأمطار الغزيرة لفترات مقتضبة، بات الوضع في البلاد مقلقا.
ترشيد قاس للاستهلاك
ويتحول قطاع كامل من الأراضي من الغرب إلى الشرق ببطء إلى مسطحات جافة. وفي ظل الأضرار الكبيرة على صعيد الزراعة والتنوع الطبيعي والغابات بفعل الجفاف، تدفع الثروة الحيوانية أيضا ثمن هذه الأزمة.
ويقول سيرغيش كيرغيل المتحدث باسم الهيئة البولندية الرسمية المكلفة وضع سياسة شاملة للمياه لوكالة فرانس برس “تراجع المستوى في 2018 وهي سنة جافة للغاية، إلى 1100 متر مكعب من المياه لكل نسمة، أي أدنى تقريبا من عتبة الأمن”
وتنذر هذه السنة بتكرار الوضع عينه.
ففي مطلع حزيران/يونيو، اضطرت مدينة سكيرنيفيتسه على بعد 80 كيلومترا من وارسو إلى قطع المياه عن بعض الأحياء. وخلال بضعة أيام، لم يكن التموين بالماء متوفرا إلا للسكان في الطبقات الأرضية، فيما كان القاطنون في الطبقات العليا يتزودون بحاجاتهم المائية عن طريق عبوات بسعة عشرة ليترات مقدّمة من البلدية.
وأعلنت الهيئة البولندية للموارد المائية حال الإنذار في تموز/يوليو، مشيرة إلى أن ثلثي البلاد قد تشهد شحا للمياه في آبارها الأقل عمقا.
وفرضت أكثر من 320 بلدية سياسات لترشيد استهلاك المياه، وقد حظر بعضها ملء أحواض السباحة أو ري الحدائق أو غسل السيارات تحت طائلة فرض غرامات كبيرة.
نزاعات اجتماعية
وتضطر مقاطعات محرومة من المياه من شراء حاجاتها من مناطق مجاورة، ما يتسبب بنزاعات اجتماعية كما الحال في سولميجتسه وسط البلاد التي تتهم منجما للفحم البني بالتسبب بخفض مستوى المياه الجوفية، أو في بودكوفا ليشنا قرب وارسو حيث يحمل السكان على جيرانهم على خلفية الإسراف في استهلاك المياه لري الحدائق.
ويوضح كيرغيل “بعض مناطق البلاد تشهد جفافا في المياه الجوفية أي عندما لا تدخل المياه إلى الطبقات العميقة في الأرض ولا تتم تنقيتها في المنابع”.
ويقول تاديش نوربيشياك “لم أعد أذكر متى شهدنا شتاء حقيقيا مع ثلج يصمد طويلا ويذوب ببطء للدخول في التربة”.
ويقرب مستوى المياه حاليا في نهر فيستولا في وارسو من 40 سنتيمترا. وفي أيار/مايو حين سجلت كميات كبيرة من المتساقطات، كان مستواها 6 أمتار.
ويوضح كيرغيل “المياه تسربت وباتت في بحر البلطيق. النتيجة عينها، لكن هذه المياه لا تعطينا شيئا وهي لا تفيد للاستهلاك البشري والزراعة”.
ويبقى احتباس المياه أكبر المشكلات التي ينبغي لبولندا مواجهتها في السنوات المقبلة.
وبسبب نقص الخزانات، لا تحبس البلاد سوى 6,5 % من المياه التي تعبر أراضيها، فيما تبلغ النسبة في إسبانيا 49 %.
ولمواجهة هذا الوضع الطارئ، تعتزم الحكومة إنشاء حوالى ثلاثين خزانا لحبس المياه بحلول 2027 بهدف مضاعفة مستوى المياه المخزنة حاليا. وتبلغ قيمة هذا الاستثمار 14 مليار زلوتي (3,65 مليارات دولار). كذلك، سيتمكن المزارعون من إنشاء خزانات صغيرة حتى ألف متر مكعب من دون إذن خاص.
المصدر :مونت كارلو الدولية – أ ف ب